الوقت- على مدى عقود، سعى كيان الاحتلال الإسرائيلي إلى ترسيخ صورة لنفسه في الغرب باعتباره كيانًا “طبيعيًا” و”ديمقراطيًا” منسجمًا مع القيم الأوروبية، غير أن هذه الصورة بدأت تتآكل بشكل متسارع، وخصوصًا بعد تصاعد الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، اليوم، لم يعد الإسرائيلي في كثير من العواصم الأوروبية يُنظر إليه كشخص عادي منفصل عن سياسات كيانه، بل كممثل لمنظومة عسكرية استعمارية، الأمر الذي جعله في حالات كثيرة غير مرغوب فيه اجتماعيًا وثقافيًا.
من التعاطف الرسمي إلى الرفض الشعبي
رغم استمرار الدعم الرسمي الذي تقدمه حكومات غربية لكيان الاحتلال الإسرائيلي، فإن المزاج الشعبي الأوروبي يشهد انقلابًا واضحًا، الشارع الأوروبي، الذي بات أكثر اتصالًا بالوقائع عبر الإعلام البديل ومنصات التواصل الاجتماعي، لم يعد يتقبل الرواية الرسمية التي تبرر القتل والحصار، هذا التباين بين الموقفين الرسمي والشعبي خلق حالة من الضغط المتزايد على المؤسسات الثقافية والأكاديمية، التي وجدت نفسها أمام اختبار أخلاقي حقيقي.
أمستردام كنموذج لتحوّل الصورة في الوعي العالمي
أحد أبرز الأمثلة على هذا التحول ظهر في مدينة أمستردام، حيث أعلنت قاعة “كونسرت خيباو” الشهيرة إلغاء حفل موسيقي كان مقررًا بمناسبة عيد الحانوكا اليهودي، بسبب مشاركة مغنٍ عسكري معروف بارتباطه المباشر بجيش كيان الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن القرار شكليًا، بل استند إلى موقف أخلاقي صريح عبّرت عنه إدارة القاعة بقولها إن ارتباط الفنان بالمؤسسة العسكرية “يتعارض جذريًا مع رسالة الموسيقى التي تهدف إلى الربط بين الشعوب لا تبرير العنف”.
الثقافة في مواجهة الحرب
في بيانها، أكدت إدارة القاعة أن جيش كيان الاحتلال الإسرائيلي “منخرط في حرب مثيرة للجدل”، وأن استضافة شخصية فنية عسكرية في هذا السياق لا تنسجم مع قيم المؤسسة، هذه اللغة غير المسبوقة تعكس انتقال الموقف الأوروبي من الحياد الثقافي إلى الانحياز الأخلاقي، حيث لم تعد الفنون بمنأى عن المساءلة السياسية، وخصوصًا حين تُستخدم لتلميع صورة كيان متهم بارتكاب جرائم حرب.
الشارع الأوروبي يفرض حضوره
إلغاء الحفل لم يمر بهدوء، بل رافقته احتجاجات شعبية داعمة لفلسطين، شهدت اشتباكات مع الشرطة أسفرت عن اعتقال 22 ناشطًا، هذا المشهد يعكس أن التضامن مع الفلسطينيين لم يعد مجرد تعاطف صامت، بل تحوّل إلى فعل ميداني يربك السلطات ويضعها أمام تناقضاتها، كما يكشف أن قطاعات واسعة من المجتمع الأوروبي باتت مستعدة لدفع ثمن مواقفها الأخلاقية.
ردود الفعل الإسرائيلية وخطاب الابتزاز
في المقابل، قوبلت هذه التطورات بغضب رسمي من قبل كيان الاحتلال الإسرائيلي، حيث سارع مسؤولوه إلى اتهام أوروبا بـ”العداء لليهود”، هذا الخطاب، الذي يخلط عمدًا بين اليهودية كدين وسياسات كيان الاحتلال كمنظومة عسكرية، لم يعد يحظى بالقبول ذاته كما في السابق، بل بات يُنظر إليه كأداة ابتزاز سياسي تهدف إلى إسكات أي نقد مشروع للجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين.
تصريحات شيكلي والرد الهولندي
وزير شؤون الشتات في حكومة كيان الاحتلال، عميخاي شيكلي، عبّر عن استيائه من نتائج الانتخابات الهولندية الأخيرة، معتبرًا أن هولندا تتحول إلى مكان “غير آمن لليهود”، ودعا اليهود إلى إعادة التفكير في مستقبلهم هناك، في محاولة واضحة لتوظيف المخاوف التاريخية لأغراض سياسية، غير أن هذه التصريحات قوبلت برد حازم من النائبة الهولندية كلوديا فان زانتن، التي أكدت أن ما يحدث “ليس معاداة لليهود، بل رفض لجرائم الحرب والإبادة الجارية بحق الشعب الفلسطيني”.
تحوّل داخل المجتمع اليهودي نفسه
اللافت أن هذا التحول لا يقتصر على غير اليهود، بل يمتد إلى أصوات يهودية داخل أوروبا، فقد أشار دورون ساندرز، رئيس الحركة المزراحية في هولندا، إلى أن عددًا متزايدًا من المؤسسات الثقافية يرفض استضافة شخصيات مرتبطة بجيش كيان الاحتلال الإسرائيلي، بسبب الاتهامات الموجهة إليه بارتكاب جرائم حرب، هذا الموقف يكشف تصدعًا في الرواية الإسرائيلية التقليدية التي تدّعي تمثيل جميع اليهود.
المقاطعة تتوسع في أرجاء أوروبا
إلى جانب هولندا، شهدت دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا مواقف مشابهة، تمثلت في إلغاء فعاليات، ومنع فرق وفنانين مرتبطين بالمؤسسة العسكرية لكيان الاحتلال من الظهور العام، كما صدرت بيانات عن اتحادات ثقافية وأكاديمية تطالب بوقف كل أشكال التطبيع الفني والعلمي مع مؤسسات كيان الاحتلال، معتبرة أن الصمت لم يعد خيارًا أخلاقيًا.
المقاطعة كسلاح شعبي
يرى محللون أن تنامي المقاطعة الأوروبية لكيان الاحتلال الإسرائيلي يعكس غضبًا شعبيًا واسعًا من استمرار العدوان على الفلسطينيين، ويؤكد أن العالم بدأ يرى هذا الكيان بوصفه نظام فصل عنصري وإبادة جماعية، هذه المقاطعة، وإن بدت رمزية في بعض جوانبها، إلا أنها تشكل ضغطًا تراكميًا يضرب في عمق شرعية الكيان وصورته الدولية.
فشل تهمة “معاداة السامية”
مع كل محاولة لتكميم الأصوات الأوروبية بذريعة “معاداة السامية”، يزداد وعي الرأي العام بأن هذه التهمة تُستخدم كدرع سياسي، المواطن الأوروبي بات يميّز بين رفض الكراهية الدينية ورفض الجرائم السياسية، ولم يعد يقبل بتجريم التضامن مع الضحايا، هذا الوعي المتنامي يشكل أحد أخطر التحديات التي تواجه كيان الاحتلال الإسرائيلي اليوم.
نحو عزلة أخلاقية متصاعدة
في المحصلة، يمكن القول إن كيان الاحتلال الإسرائيلي يواجه مرحلة جديدة من العزلة، ليس على مستوى الحكومات فحسب، بل على مستوى المجتمعات، تحوّل الإسرائيلي، بوصفه مرتبطًا بكيان يمارس القتل والحصار، إلى شخص غير مرحب به في كثير من الفضاءات الأوروبية، هذه العزلة الأخلاقية، وإن كانت تدريجية، تحمل دلالات عميقة على أن الرواية الإسرائيلية فقدت بريقها، وأن الجرائم، مهما طال الزمن، تترك أثرها في الضمير الإنساني العالمي.
