الوقت- لم تُجمع القراءات السياسية حول المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة على أنها شكّلت إنجازًا حقيقيًا للفلسطينيين، بل على العكس، بدت هذه المرحلة وكأنها محطة جديدة من الألم والمعاناة الإنسانية، فبدل أن تفتح الباب أمام تخفيف الحصار أو توفير الحد الأدنى من الحماية للمدنيين، تحولت إلى غطاء هش استُكملت تحته سياسات القتل والتجويع، وبينما نجحت حركة حماس في تثبيت موقعها كطرف أساسي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة سياسية أو تفاوضية، وأظهرت قدرة واضحة على إدارة ملفات حساسة كملف الأسرى، فإن الشعب الفلسطيني بقي خارج دائرة المكاسب، يدفع ثمن الاتفاق من أمنه وحياته اليومية.
الولايات المتحدة، التي قدّمت نفسها كراعٍ للتهدئة، لم تمارس ضغطًا حقيقيًا على الكيان الصهيوني، واكتفت بدور شكلي لم ينعكس أثره على الأرض، فيما استغلت حكومة الكيان الاتفاق كغطاء سياسي لمواصلة جرائمها، ومنع المساعدات، وتعميق الدمار، هذا الواقع أعاد طرح تساؤلات جوهرية حول جدوى الاتفاقات غير المحمية، وحول مستقبل أي مرحلة لاحقة إذا استمرت المعادلة المختلّة ذاتها دون ضمانات دولية حقيقية.
عزلة الخطة الأمريكية وفشل الحشد الدولي
تكشف التقارير الإعلامية العبرية عن فشل واضح في المساعي الأمريكية لحشد غطاء دولي واسع لخطة نشر قوة حفظ استقرار في قطاع غزة، إذ إن استجابة دولتين فقط من أصل أكثر من سبعين دولة تمت دعوتها تعكس عزلة سياسية حقيقية للمشروع، هذا العزوف الواسع لا يمكن فصله عن إدراك العديد من الدول لحساسية المشهد الغزّي وتعقيداته الأمنية، إضافة إلى غياب رؤية واضحة تضمن سلامة القوات المشاركة وعدم تحولها إلى جزء من الصراع، فغزة ليست ساحة تقليدية لنشر قوات دولية، بل منطقة مشتعلة، يواصل فيها الكيان الصهيوني عدوانه دون رادع، ما يجعل أي وجود أجنبي عرضة للمخاطر، كما يعكس هذا الفشل تراجع الثقة الدولية في قدرة واشنطن على إدارة الملف الغزّي بموضوعية، أو في نواياها الحقيقية، وهو ما دفع معظم الدول إلى تجنب الانخراط في مشروع قد تكون تكلفته السياسية والأمنية باهظة.
المشاركة المشروطة… الخوف من الميدان
موافقة أذربيجان وإندونيسيا المشروطة على المشاركة في القوة المقترحة تكشف بوضوح حجم المخاوف التي تحيط بالميدان، فالشرط الأساسي الذي وضعته الدولتان، والمتمثل في ضمان عدم تعرّض قواتهما لهجمات، يعكس هشاشة البيئة الأمنية، وغياب أي التزام حقيقي من الكيان الصهيوني باحترام وجود قوة دولية. هذا الشرط ليس تفصيلاً تقنيًا، بل مؤشر سياسي على إدراك دولي بأن أي قوة تُنشر دون وقف شامل للعدوان ستكون عرضة للاستهداف والفشل، كما أن هذه المشاركة المحدودة لا تمنح الخطة الأمريكية أي مصداقية عملية، إذ لا يمكن لدولتين فقط أن تشكلا نواة لقوة قوامها عشرة آلاف عنصر، ما يجعل المشروع أقرب إلى الطرح النظري منه إلى الخطة القابلة للتنفيذ.
دعم لوجستي بدل التورط الميداني
أمام العجز عن حشد قوات فعلية، حاولت الولايات المتحدة تسويق بدائل أقل تكلفة للدول المترددة، مثل تقديم الدعم اللوجستي أو المعدات أو وسائل النقل، ورغم إعلان عدد من الدول استعدادها لهذا النوع من الدعم، إلا أن هذه المقاربة تعكس اعترافًا ضمنيًا بفشل جوهر الخطة. فالدعم اللوجستي، مهما بلغ حجمه، لا يمكن أن يعوّض غياب قوات على الأرض قادرة على فرض الاستقرار أو حماية المدنيين، كما أن هذا التوجه يكشف سعي واشنطن إلى إظهار وجود “تأييد دولي” شكلي، في وقت يدرك فيه الجميع أن الواقع الميداني في غزة لا يتغير بالتصريحات ولا بالمساعدات التقنية، بل بوقف عدوان الكيان الصهيوني ورفع الحصار بشكل فعلي.
انسحاب الكيان الصهيوني… حقيقة أم إعادة تموضع؟
تربط الخطة الأمريكية، وفق ما أوردته وسائل الإعلام العبرية، بين نشر القوة الدولية وبين انسحاب جيش الكيان الصهيوني من غزة، إلى جانب تشكيل مجلس سلام للإشراف على إعادة الإعمار، وإدارة فلسطينية تكنوقراطية، غير أن هذه الوعود تثير شكوكًا عميقة، وخاصة في ضوء التجارب السابقة التي استخدم فيها الكيان الصهيوني مثل هذه العناوين كغطاء لإعادة التموضع لا أكثر، فالانسحاب، إن حدث، قد يكون شكليًا، يهدف إلى تخفيف الضغط الدولي دون التخلي عن السيطرة الفعلية، كما أن ربطه بقوة دولية لم تتشكل أصلًا يجعل الخطة بأكملها رهينة التعقيدات السياسية والأمنية، ويحولها إلى مشروع مؤجل، لا يغيّر من معاناة الفلسطينيين شيئًا.
غياب الإرادة الدولية وتآكل مفهوم الحماية الأممية
تكشف حالة العجز التي رافقت مشروع نشر قوة دولية في غزة عن أزمة أعمق تتجاوز فشل الخطة الأمريكية نفسها، لتصل إلى تآكل مفهوم الحماية الأممية وانهيار الإرادة الدولية في مواجهة عدوان الكيان الصهيوني، فالدول التي امتنعت عن المشاركة لم تفعل ذلك فقط خوفًا على قواتها، بل بسبب إدراكها أن أي وجود دولي في غزة سيكون بلا غطاء سياسي حقيقي، وبلا قدرة على فرض الالتزام على طرف يمتلك دعمًا أمريكيًا مطلقًا، هذا الواقع يعكس خللًا بنيويًا في النظام الدولي، حيث تُشلّ أدوات القانون الدولي أمام إرادة القوة، وتتحول المؤسسات الأممية إلى منصات بيانات لا تملك أدوات التنفيذ.
في غزة، لم تفشل الأمم المتحدة في توفير الحماية فحسب، بل فشلت حتى في ضمان تدفق المساعدات الإنسانية دون عرقلة، فيما واصل الكيان الصهيوني فرض شروطه، ضاربًا بعرض الحائط كل القرارات الدولية، هذا العجز بعث برسالة خطيرة مفادها بأن المدنيين الفلسطينيين خارج منظومة الحماية العالمية، وأن دمهم لا يفرض على المجتمع الدولي أي التزام فعلي، كما ساهم هذا الواقع في تآكل ثقة الفلسطينيين بأي حلول دولية، إذ بات واضحًا أن الاتفاقات غير المسنودة بإرادة سياسية صارمة لا تحمي أحدًا، بل قد تتحول إلى أدوات لإدارة الصراع بدل إنهائه.
إن استمرار هذا الفراغ الدولي لا يهدد غزة وحدها، بل يضرب جوهر النظام الدولي القائم على فكرة الردع الجماعي وحماية المدنيين، ويكرّس سابقة خطيرة تسمح للكيان الصهيوني بالعمل خارج أي مساءلة، ومن هنا، فإن أي حديث عن مرحلة جديدة أو ترتيبات مستقبلية يفقد معناه ما لم يُعاد الاعتبار لمبدأ المحاسبة، ويُفرض على القوى الكبرى الانتقال من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل المسؤول، قبل أن تتحول المأساة في غزة إلى نموذج دائم للإفلات من العقاب.
في النهاية، تكشف هذه المعطيات مجتمعة أن الخطة الأمريكية بشأن غزة تواجه مأزقًا حقيقيًا منذ لحظة طرحها، فالعزوف الدولي، والمشاركة المشروطة، وغياب الضمانات، كلها عوامل تجعل المشروع هشًا وقابلًا للفشل، وفي ظل استمرار عدوان الكيان الصهيوني، وعجز المجتمع الدولي عن فرض أي التزام حقيقي، تبقى غزة عالقة بين اتفاقات شكلية ووعود مؤجلة، إن أي حديث عن استقرار أو إعادة إعمار لا يمكن أن يكون جديًا دون معالجة جذرية لأسباب الصراع، ووقف شامل للعدوان، وضمانات دولية تحمي الفلسطينيين لا أن تدير أزمتهم. دون ذلك، ستظل كل الخطط مجرد محاولات لتجميل واقع مأساوي، فيما يبقى الشعب الفلسطيني هو الضحية الدائمة.
