الوقت- يشهد جنوب اليمن مرحلة بالغة التعقيد من الصراع، تجاوزت في طبيعتها المواجهة التقليدية مع صنعاء، لتتحول إلى ساحة تنازع مفتوح بين أطراف كانت حتى وقت قريب حليفة ضمن ما سُمّي تحالف دعم “الشرعية”، فالتوتر المتصاعد بين السعودية والإمارات، وانعكاسه الميداني في محافظات مثل المهرة وعدن وحضرموت، يكشف عن صراع نفوذ عميق يتجاوز الخلافات التكتيكية إلى تضارب المشاريع الاستراتيجية، وفي خضم هذا المشهد، تبرز اتهامات خطيرة بوجود دور صهيوني مباشر، عبر المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا، بما يضيف بُعدًا إقليميًا ودوليًا بالغ الحساسية إلى الأزمة اليمنية، يستند هذا المقال إلى تحليل تطورات ميدانية وسياسية متزامنة، ليفكك طبيعة الصراع داخل معسكر التحالف، ويبحث في خلفياته، وأهدافه، وانعكاساته المحتملة على وحدة اليمن ومستقبل الصراع فيه.
تفكك التحالف السعودي الإماراتي.. من الشراكة إلى الصدام
تكشف التحركات الأخيرة في محافظة المهرة عن تحوّل جوهري في العلاقة بين السعودية والإمارات داخل اليمن، حيث انتقل الطرفان من تنسيق المصالح إلى صراع نفوذ شبه علني، بدء الرياض بتجنيد قوات “درع الوطن” على نطاق واسع، في مقابل تمدد قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا، يعكس إدراكًا سعوديًا متأخرًا بخطورة فقدان السيطرة على شرق وجنوب اليمن. هذا الصدام لا يمكن فصله عن اختلاف الرؤى الاستراتيجية بين الطرفين؛ فالسعودية تسعى للحفاظ على كيان يمني موحد شكليًا يخدم أمنها الحدودي، بينما تركز الإمارات على بناء كيانات محلية موالية لها تسيطر عبرها على الموانئ والممرات البحرية، إعلان المجلس الانتقالي قطع تعاونه مع رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي يمثل ذروة هذا الانقسام، ويؤكد أن “الشرعية” نفسها باتت أداة صراع بين داعميها، لا مرجعية جامعة لهم.
المجلس الانتقالي الجنوبي.. مشروع انفصالي أم أداة إقليمية؟
يقدّم المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه بوصفه ممثلًا لإرادة “استقلال الجنوب”، إلا أن المعطيات السياسية والميدانية تشير إلى أن هذا الخطاب يتجاوز كونه مطلبًا محليًا إلى كونه أداة ضمن مشروع إقليمي أوسع، فسيطرة المجلس على مؤسسات سيادية، وإقصاء خصومه، ورفضه الاعتراف برموز السلطة المدعومة سعوديًا، تكشف عن سعيه لفرض أمر واقع يخدم داعميه أكثر مما يخدم الشارع الجنوبي، التحذيرات الصادرة من صنعاء بشأن ارتباط المجلس بأجندات خارجية، وخصوصًا الكيان الصهيوني، تعزز الشكوك حول طبيعة هذا المشروع. فالدعوة إلى “الاستقلال” تُستخدم، وفق هذه الرواية، كغطاء سياسي لإعادة رسم خريطة السيطرة على الموانئ والمنشآت الحيوية، بما يضمن نقل القرار السيادي من الداخل اليمني إلى عواصم إقليمية ودولية.
البعد الصهيوني الأمريكي.. من الظل إلى العلن
أحد أخطر أبعاد المشهد الحالي يتمثل في الاتهامات المتزايدة بوجود دور صهيوني مباشر في جنوب اليمن، فالتقارير عن لقاءات بين قيادات المجلس الانتقالي ومسؤولين صهاينة، وتصريحات وزراء في حكومة الاحتلال، تشير إلى انتقال هذا الدور من مستوى غير معلن إلى مستوى شبه علني، هذا الحضور لا يبدو منفصلًا عن الاستراتيجية الأمريكية الأوسع في المنطقة، القائمة على تأمين الممرات البحرية، ومحاصرة القوى المناهضة لـ"إسرائيل"، وفي مقدمتها صنعاء. وفق هذه القراءة، فإن إعادة تشكيل النفوذ في حضرموت والمهرة وعدن يهدف إلى خلق طوق جيوسياسي يخدم أمن "إسرائيل" البحري، ويمنحها موطئ قدم جديدًا في البحر العربي، وهنا يصبح الصراع اليمني جزءًا من معادلة إقليمية أكبر، تتجاوز الحدود الوطنية، وتُدار وفق أولويات واشنطن و"تل أبيب" أكثر مما تُدار وفق مصالح اليمنيين.
انعكاسات الصراع على وحدة اليمن
إن استمرار هذا الصراع المركّب ينذر بتداعيات خطيرة على وحدة اليمن ومستقبله السياسي، فالتناحر بين القوى المدعومة خارجيًا يضعف أي مسار حقيقي للتسوية، ويعمّق الانقسامات الجغرافية والسياسية، كما أن عسكرة الخلافات داخل معسكر التحالف تفتح الباب أمام فوضى أمنية طويلة الأمد، وخصوصًا في المناطق الغنية بالموارد، في المقابل، تستثمر صنعاء هذه التناقضات لتعزيز خطابها القائم على “مواجهة العدوان والمشاريع الخارجية”، ما يمنحها زخمًا سياسيًا داخليًا وإقليميًا، غير أن الخاسر الأكبر يبقى الشعب اليمني، الذي يجد نفسه عالقًا بين مشاريع متصارعة، تُدار باسمه دون أن تعكس تطلعاته الفعلية في الاستقرار والسيادة، ومع غياب إرادة دولية جادة لإنهاء الصراع، يبدو أن الجنوب مرشح لمزيد من التصعيد، لا لميلاد دولة مستقلة ولا لاستعادة دولة موحدة.
المهرة وحضرموت… الجغرافيا التي فجّرت الصراع
تحتل محافظتا المهرة وحضرموت موقعًا محوريًا في الصراع الدائر جنوب اليمن، ليس فقط لامتدادهما الجغرافي الواسع، بل لما تمثلانه من ثقل استراتيجي في معادلات الطاقة والممرات البحرية والنفوذ الإقليمي، التحركات العسكرية المتسارعة في هاتين المحافظتين تعكس إدراكًا متزايدًا لدى الأطراف المتصارعة بأن من يسيطر على الشرق اليمني يمتلك مفاتيح التأثير في مستقبل البلاد، فالسعودية تنظر إلى المهرة بوصفها عمقًا أمنيًا وحدوديًا، وممرًا محتملًا لمشاريع الطاقة البديلة، في حين ترى الإمارات وحلفاؤها في حضرموت والمهرة مساحة مفتوحة لإعادة هندسة النفوذ بعيدًا عن الهيمنة السعودية التقليدية، هذا التباين في الرؤى حوّل المحافظتين إلى ساحة اختبار للقوة، وجعل من البُنى القبلية والمجتمعية هدفًا لمحاولات الاستقطاب والتفكيك، وفي ظل هذا الواقع، تبرز المخاوف من أن يتحول الشرق اليمني إلى نقطة اشتعال دائمة، تُدار فيها الصراعات بأدوات محلية، لكن وفق حسابات خارجية، بما يعمّق الانقسام ويقوّض أي فرصة لبناء دولة يمنية مستقلة القرار.
أزمة الشرعية لدى الأطراف الفاعلة في مناطق سيطرة التحالف
تتجلى أزمة الشرعية السياسية بوضوح لدى الأطراف الفاعلة في المناطق الواقعة تحت سيطرة التحالف، حيث أفرزت سنوات الصراع كيانات سياسية وأمنية متنافسة، تفتقر في مجملها إلى التفويض الشعبي والقدرة على اتخاذ قرار مستقل، فهذه الأطراف، وعلى الرغم من تعدد مسمياتها، تشترك في كونها نتاجًا لتوازنات خارجية أكثر من كونها تعبيرًا عن إرادة وطنية يمنية، ويبرز مجلس القيادة الرئاسي بوصفه نموذجًا لهذه الأزمة، إذ تحوّل إلى إطار شكلي تتنازع داخله الولاءات، وتُدار قراراته وفق حسابات داعميه الإقليميين، كما أن تصاعد الخلافات بين هذه الأطراف، ولا سيما بين المكونات المدعومة سعوديًا وتلك المدعومة إماراتيًا، كشف هشاشة البنية السياسية في تلك المناطق، وأظهر أن ما يُسمّى بالشرعية لم يعد مظلة جامعة، بل ساحة صراع مفتوح على النفوذ والتمثيل، وفي ظل هذا الواقع، يغيب المشروع الوطني الجامع، وتحل محله أجندات متعارضة، تُفاقم حالة الانقسام وتُطيل أمد الأزمة، بينما يدفع المواطن اليمني في هذه المناطق ثمن هذا الفشل السياسي والأمني المتراكم.
في النهاية، تؤكد التطورات الأخيرة في جنوب اليمن أن الصراع لم يعد مجرد مواجهة داخلية أو حرب بالوكالة، بل أصبح ساحة تصادم بين مشاريع إقليمية ودولية متنافسة. تفكك التحالف السعودي–الإماراتي، وصعود المجلس الانتقالي، وظهور الدور الإسرائيلي، كلها مؤشرات على مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا وخطورة. وفي ظل هذا المشهد، تتآكل السيادة اليمنية لصالح حسابات النفوذ والممرات البحرية والأمن الإقليمي، إن أي مقاربة حقيقية لإنهاء الأزمة اليمنية لا يمكن أن تنجح ما لم تُعالج جذور هذا الصراع المتشابك، وتُعاد الأولوية للإرادة الوطنية اليمنية بعيدًا عن الإملاءات الخارجية، دون ذلك، سيظل جنوب اليمن ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين، وثمنها مزيد من الانقسام وعدم الاستقرار.
