الوقت- مع اقتراب عام 2025 لنهايته، تشهد الساحة اليمنية تحولات جيوسياسية عميقة، إذ بلغ التنافس بين الحليفين السابقين، المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، أوجه، بعدما انقلبت شراكتُهما ضد أنصار الله إلى صراعٍ مكشوف، تحرّكه شهوة السيطرة على المواقع الاستراتيجية والثروات النفطية في اليمن، وعلى مدار أكثر من عقد، ظل هذا البلد غارقاً في أتون حروب متشابكة، داخلية كانت وخارجية، حروب خطّط لها الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وسُخرت لتنفيذها أدوات إقليمية كالإمارات والسعودية، التي وجدت في الأرض اليمنية مسرحاً لتصفية الحسابات وتحقيق المصالح.
اليوم، بات اليمن مقسوماً إلى شطرين رئيسيين: شمال تسيطر عليه حركة أنصار الله، التي أحكمت قبضتها على صنعاء والمناطق الشمالية، وجنوب يقع تحت نفوذ القوات والمليشيات المدعومة من التحالف الدولي المزعوم، وفي الجنوب تحديداً، بلغ الخلاف بين المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يتلقى دعماً سخياً من الإمارات، والحكومة اليمنية المدعومة سعودياً، ذروته، حتى صار الصراع بينهما أشبه بمعركة كسر عظم، تتنازع فيها الأطراف على النفوذ والسيطرة.
الجنوب بين السيطرة الإماراتية والانقسام المتفاقم
في الأسابيع الأخيرة، شهدت مناطق الجنوب اليمني تحولات عاصفة، كان أبرزها العملية العسكرية الخاطفة التي أطلق عليها المجلس الانتقالي الجنوبي اسم “مستقبل واعد”، والتي أسفرت عن سيطرته شبه الكاملة على المحافظات الجنوبية الثماني، بما في ذلك المناطق الغنية بالنفط مثل حضرموت، هذه العملية، التي جاءت بدعم عسكري ومالي ولوجستي من الإمارات، وضعت قوات المجلس الانتقالي في مواجهة مباشرة مع القوات الموالية للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، والتي تحظى بدعم المملكة العربية السعودية.
هذا الانقسام الحاد داخل التحالف السابق الذي كان يجمع الطرفين ضد أنصار الله، أفضى إلى تراجع سلطة الحكومة المركزية، وأفسح المجال أمام تقسيم فعلي للبلاد: شمال في قبضة أنصار الله، وجنوب تحت نفوذ الإمارات، ومع هذا الفراغ السياسي والأمني، تتبدى فرصة ذهبية للكيان الصهيوني، الذي قد يجد في هذا المشهد المرتبك مجالاً للتحرك بسهولة أكبر وتنفيذ عملياته الخفية بعيداً عن أعين الرقباء.
اليمن: الكابوس الذي يطارد أحلام "إسرائيل"
منذ أكتوبر 2023، دشّنت حركة أنصار الله مرحلةً جديدةً من المواجهة مع الكيان الصهيوني، عبر إطلاق مئات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، التي اخترقت العمق الصهيوني، مستهدفةً منشآت حيوية وبنى تحتية استراتيجية، كالمطارات والموانئ، ومنها مطار رامون ومدينة إيلات، لم تقتصر هذه الهجمات على إحداث أضرار مادية جسيمة، بل امتدت آثارها إلى زلزلة الأمن النفسي لسكان تل أبيب، حتى قيل إن المستوطنين باتوا “لا يغمض لهم جفن خشية صواريخ اليمن”.
وعلى الرغم من تفوق الكيان الصهيوني العسكري، وامتلاكه منظومةً استخباراتيةً متقدمةً مدعومةً من الغرب، إلا أنه وقف عاجزاً أمام هذا التهديد، فحسب تحليلات صهيونية، فإن الضربات الجوية التي استهدفت البنية التحتية اليمنية، كالمطارات والموانئ، لم تُضعف أنصار الله، الذين تستمد حركتهم قوتها من هيكلها التنظيمي المرن، وأيديولوجيتها المقاومة، والتفاف الشعب حولها، بل إن تلك الهجمات زادتهم عزيمةً وإصراراً على مواصلة الكفاح.
وفي ظل هذا الفشل الذريع في احتواء خطر اليمن، لجأت تل أبيب إلى تغيير قواعد الاشتباك، لتنتقل من سياسة استهداف البنى التحتية إلى استهداف القيادة السياسية لأنصار الله، ففي أغسطس 2025، نفذت "إسرائيل" غارةً جويةً مركزةً استهدفت أحمد الرهوي، رئيس وزراء حكومة أنصار الله في صنعاء، وعدداً من كبار قادة الحركة، ما أدى إلى استشهادهم.
مثل هذا الهجوم، الذي يُعدّ الأكبر من نوعه في استهداف قيادات رفيعة المستوى للحركة، أظهر أن تل أبيب لم تعد تكتفي بضرب المرافق والمنشآت، بل بدأت تسعى إلى تصفية قادة أنصار الله، في محاولة يائسة لإضعاف الحركة من الداخل.
في خضم المشهد اليمني المتأزم، حيث تتصارع الأطماع الإقليمية وتتمازج المؤامرات الدولية، تبرز تصريحات الدكتور عبد العزيز صالح بن حبتور، عضو المجلس السياسي الأعلى في اليمن، لتكشف عن أبعاد مخطط خبيث، نسجت خيوطه دول التحالف المعتدي، وعلى رأسها السعودية والإمارات، في إطار مشروع قديم أُلبس حلّةً جديدةً، ويتخذ من الجنوب والشرق اليمني ساحةً لتنفيذ مآربه.
صرّح بن حبتور بأن الأحداث المؤسفة التي تشهدها المحافظات الجنوبية والشرقية ليست إلا فصولاً متجددة من كتاب مؤامرة أعدّته دول العدوان، حيث أضحت الإمارات والسعودية أدوات تنفيذية لمخططات ترمي إلى تقويض اليمن وإخضاعه لمشاريع الهيمنة، وأشار إلى معلومات مؤكدة تفيد بوجود تنسيق مباشر بين المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً والكيان الصهيوني، مستشهداً بتصريحات وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس، التي لم تكتفِ بالكشف عن خيوط العلاقة، بل أشارت إلى مساعٍ لإنشاء أول قاعدة رسمية للكيان المحتل في محافظة عدن، في سياق مساعي الإمارات الحثيثة لخدمة المشروع الصهيوني.
کما حذّر بن حبتور من الخديعة التي يروّج لها مرتزقة التحالف تحت شعار “مشروع استقلال الجنوب”، مؤكداً أن هذا الادعاء ليس إلا أكذوبة أملتها إرادة صهيونية ونفّذتها أيدي العملاء، مشدداً على أن كل من يصطف مع الإمارات ويسير في ركابها إنما يخدم المشروع الصهيوني ويضع نفسه في خانة أدوات الاحتلال، سواء أدرك ذلك أو أغفل عنه.
لماذا قد تصبح الاغتيالات خياراً رئيسياً للكيان الصهيوني؟
أولاً: مأزق عسكري متفاقم
يعاني الكيان الصهيوني من عجز بيّن في كبح الدعم اليمني لغزة أو تدمير القدرات الصاروخية لأنصار الله بالوسائل التقليدية، ومع تعذّر تحقيق أهدافه عبر الحرب المباشرة، قد يجد في الاغتيالات خياراً أقل تكلفةً من حرب شاملة، لكنه يحمل في طياته تأثيراً نفسياً بالغاً.
ثانياً: استهداف القيادة السياسية
رغم أن القيادة العسكرية لأنصار الله تتسم بمرونة هيكلية ومركزية محدودة، إلا أن استهداف الشخصيات السياسية البارزة قد يُحدث خلخلةً في منظومة صنع القرار ويُضعف تماسك الحكومة في صنعاء.
ثالثاً: الاستفادة من تحولات الجنوب
سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على رقعة واسعة من الأراضي اليمنية، بما فيها الموانئ والمنافذ الحدودية، قد تفتح الباب أمام الموساد لتعزيز وجوده العملياتي والاستخباراتي في تلك المناطق، وخاصةً في ظل العلاقات الوثيقة بين الإمارات والكيان الصهيوني التي ترسخت عبر اتفاقيات التطبيع، وتشير تقارير إسرائيلية إلى أن تقدم المجلس الانتقالي قد يُضعف شبكات الإمداد والتهريب الخاصة بأنصار الله، ما يهيئ فرصةً ذهبيةً لتنفيذ عمليات سرية.
ردود أنصار الله وتحذيراتهم
في مواجهة هذه المخططات، أعلن قادة أنصار الله أن مثل هذه الاغتيالات لن تُثنيهم عن مواقفهم الثابتة في دعم غزة، بل ستزيدهم إصراراً على تصعيد عملياتهم. وتعهدت الحركة بمفاجآت جديدة قد تقلب موازين الصراع، مؤكدةً أن أي تصعيد صهيوني لن يمر دون ردٍّ صارم.
إن تصعيد الكيان الصهيوني في اليمن، عبر الاغتيالات أو غيرها، لن يقتصر على تأجيج الصراع المحلي، بل سيُفضي إلى زعزعة الاستقرار في البحر الأحمر، مما يهدد خطوط الملاحة الدولية ويجبر شركات الشحن العالمية على تغيير مساراتها بعيداً عن قناة السويس، وهو ما سيخلّف آثاراً اقتصاديةً مدمرةً على المنطقة برمتها.
اليمن عند مفترق طرق خطير
تتجلى التحولات اليمنية اليوم في صورة معقدة، حيث أفضى التنافس بين الإمارات والسعودية إلى تقسيم فعلي للبلاد بين شمال في قبضة أنصار الله وجنوب تحت هيمنة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً، وفي هذا السياق، يسعى الكيان الصهيوني، الذي أرهقته صواريخ اليمن، إلى كسر حالة الجمود عبر تبني استراتيجية الاغتيالات، غير مبالٍ بما قد يترتب على ذلك من مخاطر إقليمية وتداعيات غير محسوبة.
إن محاولة الكيان الصهيوني استغلال حالة الفوضى في الجنوب اليمني، بالتواطؤ مع الإمارات، قد تشعل فتيل صراع إقليمي لا نهاية له، ومع امتلاك أنصار الله قدرات دفاعية متقدمة وأسلحة نوعية، أثبتت الحركة مراراً قدرتها على مواجهة أي عدوان بفعالية وصرامة.
وقد أرسلت الحركة رسالةً واضحةً مفادها بأن أي خطأ في حسابات الكيان المحتل سيُقابل بردٍّ مزلزل، وأن تل أبيب لن تجني من عدوانها سوى مزيد من الخسائر والهزائم، وعلى قادة الكيان أن يدركوا أن تجاهل إرادة المقاومة وصلابة الشعب اليمني لن يكون سوى مغامرة خاسرة تُضاف إلى سجلهم الأسود في المنطقة.
