الوقت – في خضم حربٍ إعلامية شرسة تخوضها الجبهة الغربية-الصهيونية ضد قدرات الجمهورية الإسلامية الدفاعية، ولا سيما في ميادين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومنظومات الدفاع الجوي، والتي أحاطتها شائعات منظمة ودعايات ممنهجة عن احتمالية نشوب حرب جديدة تقودها الولايات المتحدة والکيان الصهيوني، بادرت قوات الحرس الثوري الإيراني، ضمن خططها السنوية التي ترمي إلى اختبار القدرات الميدانية وصقل الجاهزية القتالية، إلى تنظيم سلسلة من المناورات العسكرية في الأسابيع الأخيرة، لتردّ عملياً على تلك المزاعم، مؤكدةً أن ضجيج الأعداء الإعلامي لا ينبثق عن حقيقة، وأن القوة الدفاعية الحقيقية لإيران لا تزال تحجبها أسرارها، مستعصيةً على فهم الخصوم، غارقةً في غياهب الغموض الذي يربك حساباتهم ويقضّ مضاجعهم.
هدير الصواريخ يصدح من شرق إيران إلى غربها
ووفقاً لما نقلته وكالة فارس، بالاستناد إلى “مشاهدات ميدانية وتقارير شعبية”، فقد وردت أنباء عن اختبارات صاروخية في مدن عدة من أنحاء البلاد، منها خرمآباد، مهاباد، أصفهان، طهران، ومشهد. كما أفادت منصة صابرين نيوز بأن المناورات واختبارات الصواريخ تجري على امتداد رقعة الوطن، لتشمل المناطق من أقصى غرب إيران إلى أبعد شرقها، في مشهدٍ يشي بتعدد القواعد الصاروخية وتنوّعها، ويبرهن على قدرة إيران العسكرية في تنفيذ عمليات متزامنة عبر مساحات شاسعة من أراضيها.
إن هذا الانتشار الجغرافي الواسع يحمل رسالةً صارخةً إلى غرف التخطيط العسكري لدى الخصوم، مؤداها أن البنية الصاروخية الإيرانية ليست تقليديةً، ولا مركزيةً، بل هي منظومة معقدة، متشابكة، متينة البناء، متعددة الطبقات، قائمة على أسس تضمن البقاء والصمود أمام أي تهديد، وفي ظل هذه الهيكلة الفريدة، فإن أي محاولة لشنّ ضربة استباقية لن تكون إلا مغامرة محفوفة بالتعقيدات العملياتية، محاطة بتكاليف باهظة لا يمكن تقديرها، وما يزيد من وهج هذه الرسالة أن تلك المناورات تتزامن مع ما يضجّ به الإعلام الإقليمي من تكهنات حول هجوم محتمل على إيران، ما يضفي على هذه التحركات العسكرية بعداً ردعياً يتضاعف تأثيره، ويعمّق أثره في نفوس الأعداء.
رسالة الغموض؛ ارتباك الأعداء بين المناورات وساحة الحرب
في الأيام القليلة الماضية، استعر لهيب الجدل في ساحات الإعلام حول التحركات العسكرية التي قامت بها وحدات القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني، تحركات أربكت عقول الخصوم وأغشت أبصار أجهزة الاستخبارات الغربية والصهيونية، إذ وقفت عاجزةً عن فكّ طلاسم هذه التحركات، أهي مناورات مخططة أم استعدادات لمواجهة حقيقية؟ وهكذا، تحوّلت هذه التحركات إلى لغزٍ أمني ثقيل الوطأة، يحيط الأعداء بحيرة لا منفذ منها، ويغرس في قلوبهم بذور التردد والارتباك.
فقد نشر موقع “أكسيوس” الأمريكي نقلاً عن ثلاثة مصادر مطلعة إسرائيلية وأمريكية أن تل أبيب حذّرت واشنطن من أن عمليات نقل منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية، قد تكون ستاراً يخفي وراءه عمليةً هجوميةً استباقيةً، وجاء تصريح أحد المصادر الصهيونية ليؤكد أن “احتمال الهجوم الإيراني أقل من خمسين بالمئة، لكن لا أحد يجرؤ على المخاطرة”، وهو اعتراف ضمني بما حققته الاستراتيجية الإيرانية من نجاح مدوٍّ في بثّ الغموض المحكم، ذلك الغموض الذي يعدّ أحد ركائز الردع القوي.
وفي هذا السياق، تبقى الصواريخ الباليستية، بدءاً من طرازات كروز وصولاً إلى أحدث أجيال الصواريخ فرط الصوتية، عماد القوة الردعية الإيرانية، وقد دأبت الجمهورية الإسلامية على تنويع مدى الصواريخ وسرعتها ودقتها، فضلاً عن نوع الوقود وأسلوب الإطلاق، لتقيم ميزاناً للرعب متقناً، يجعل العدو يرزح تحت وطأة الشك، ويغرق في دوامة الخوف من عواقب تفوق حدود السيطرة، وليس تزامن هذه المناورات مع الأنباء عن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المرتقبة إلى واشنطن، حيث ستناقش القدرات الصاروخية الإيرانية، إلا دلالة واضحة على أن هذا الاستعراض العسكري يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمتغيرات المشهد الدبلوماسي الراهن.
مدن الصواريخ؛ كابوس يطارد الأعداء بعد حرب الأيام الاثني عشر
تأتي الاختبارات الصاروخية الأخيرة في وقتٍ باتت فيه مدن الصواريخ الإيرانية تحت الأرض كابوساً يقضّ مضاجع الکيان الصهيوني وحليفه الأمريكي، إذ ادعت مصادر أمنية إسرائيلية أن إيران فقدت جزءاً من قوتها الصاروخية إثر حرب الأيام الاثني عشر، وأنها لم تستعد بعد قواها السابقة، ولجأت تلك المصادر إلى إطلاق أرقام زائفة حول عدد الصواريخ ومنصات الإطلاق المتبقية، محاولةً رسم صورة هزيلة لقدرات إيران العسكرية.
لكن الرد الإيراني جاء حاسماً وقاطعاً، إذ اعتبرت مصادر عسكرية أن هذه الادعاءات ليست سوى أوهام نسجتها الحرب النفسية، مؤكدةً أن المواجهة الأخيرة لم تكشف إلا عن جزء يسير من القدرات الدفاعية للقوات الإيرانية، وأن الحرس الثوري الإيراني استخدم في تلك الحرب صواريخ من أجيال قديمة أشرفت على الخروج من الخدمة، وكان الهدف منها أشبه بما يسمى “تنظيف المخازن” أكثر من كونه اختباراً حقيقياً للقدرات العسكرية.
وقد عززت تصريحات كبار القادة العسكريين هذه الصورة، حيث أعلنوا أن خطوط إنتاج الأسلحة، ولا سيما الصواريخ، تعمل بلا انقطاع منذ الحرب الأخيرة، وقد صرح المتحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية، العميد أبو الفضل شكارجي، قائلاً: “لم تتوقف خطوط إنتاج صواريخنا القوية ولو للحظة واحدة بعد حرب الأيام الاثني عشر”.
ولعل التجارب الماضية أثبتت أن مدن الصواريخ الإيرانية تحت الأرض ليست مجرد أدوات عسكرية، بل هي سلاح نفسي رهيب، يزرع الرعب في قلوب المخططين العسكريين في تل أبيب وواشنطن، حتى إن التقارير الإعلامية الأمريكية والصهيونية أقرّت بأن مخزون الصواريخ الاعتراضية المتقدمة استُنزف بشكل كبير خلال الحرب الأخيرة، وأن الولايات المتحدة لن تتمكن من تزويد الكيان بهذه الصواريخ في الأشهر القادمة.
وفي ظل هذه المعطيات، فإن المناورات الأخيرة للحرس الثوري الإيراني تأتي كرسالة عملية لدحض مزاعم الأعداء بشأن ضعف القدرات الإيرانية، وهي رسالة تهدف إلى إعادة تعريف ميزان القوى، وتذكير العدو بأن أي خطأ في الحسابات قد يجر إلى كارثة أعظم وأشدّ وطأةً من حرب الأيام الاثني عشر.
ردع متعدد الطبقات.. استعداد من السماء إلى الأرض والبحر
لا يمكن فصل المناورات الأخيرة عن الأبعاد الأخرى لاستعدادات إيران العسكرية، فإلى جانب التحركات الصاروخية، وضعت وحدات الدفاع الجوي والطائرات المسيّرة والقوات البحرية والبرية في حالة تأهب، في مشهدٍ يعكس استراتيجية الردع متعدد الطبقات التي تتبناها العقيدة الدفاعية الإيرانية.
تقوم هذه الاستراتيجية على فرضية أن تهديدات المستقبل ستكون مركبةً ومتعددة الأبعاد، وأن الردّ عليها يجب أن يكون شاملاً، يشمل السماء والأرض والبحر في آن واحد. وفي هذا السياق، يأتي تعزيز شبكات الدفاع الجوي، وتطوير قدرات الكشف والاعتراض، وتوسيع أسطول الطائرات المسيّرة الهجومية والاستطلاعية، وحفاظ القوات البحرية على جاهزيتها في الخليج الفارسي وبحر عمان، كعناصر مكملة لقوة الردع الصاروخية.
وهكذا تحمل هذه الرسالة الشاملة دلالات واضحة للكيان الصهيوني وحليفه الأمريكي، مفادها أن أي سيناريو عدواني لن يُقابل برد محدود، بل بردٍّ متعدد الجوانب، مكلفٍ ومزلزلٍ، يترك أثراً عميقاً في موازين القوى.
وفي المحصلة، فإن ما أظهرته المناورات الأخيرة للحرس الثوري الإيراني لا يمكن اختزاله في إطار مجرد استعراض عسكري، بل هو جزء من رسالة استراتيجية واضحة، تعلن فيها إيران أن قوتها الصاروخية والدفاعية، بدلاً من أن تضعف أو تترهل، تسير بخطى واثقة نحو مزيد من التطوير، وأن أي وهم بإمكانية تكرار مواجهة محدودة سيقود إلى أزمة أعظم وأشدّ خطورةً، يُعجز الخصوم عن السيطرة على تبعاتها.
