داخل كنيسة العائلة المقدسة للاتين، التي ما زالت جدرانها تحمل آثار الشظايا، بدا الاحتفال أقرب إلى صلاة جماعية من أجل البقاء، لا إلى طقس احتفالي مكتمل. هنا، لم يكن الميلاد مناسبة للفرح الصاخب، بل فعل مقاومة هادئ في وجه حربٍ لم تميّز بين حجرٍ وبشر، ولا بين مسجد وكنيسة.
في إحدى زوايا الكنيسة، وقف الطفل جورج سابا، البالغ من العمر اثني عشر عامًا، يتأمل الشموع الصغيرة قرب المذبح. لم تكن نظرته نظرة طفل ينتظر هدية، بل نظرة من كبر قبل أوانه، وتعلّم أن يقيس الفرح بما تبقّى منه. عامٌ كامل قضاه جورج بين القصف والنزوح والخوف، جعله يحتفل بعيد ميلاده بنبرة هادئة وابتسامة حذرة، كأنها تخشى أن تُكذَّب في أي لحظة.
يقول جورج إن هذا العيد «جميل، لكنه ليس كما كان قبل الحرب»، ثم يتوقف قليلًا قبل أن يضيف، في محاولة لتخفيف وقع الكلمات، أن الكنيسة كانت تمتلئ سابقًا بالمصلّين، وتُضاء شجرة الميلاد وسط ضجيج الأطفال وعدسات الصحافة. اليوم، تبدو المساحة أوسع من عدد الحاضرين، ويخيّم الصمت على التراتيل، كأنه شاهدٌ إضافي على ما فعله القصف.
ويستعيد جورج ذكرى العام الماضي، حين تعرّضت الكنيسة نفسها للقصف وسقط شهداء وجرحى، واختلطت الصلوات بأصوات سيارات الإسعاف. ومع ذلك، يؤكد أن هذا العام «أجمل من السنة الماضية»، لأن الزينة عادت ولو بخجل، ولأن وجوهًا طيبة حضرت، ولأن الحياة حاولت، ولو على استحياء، أن تقول إنها ما زالت هنا. بالنسبة له، لا يعني عيد الميلاد ألعابًا أو ملابس جديدة، بل الاجتماع مع الأصدقاء والشعور بأن الكنيسة ما زالت بيتًا آمنًا، وأن الحرب، ولو مؤقتًا، تقف خلف الباب. «هو عيد بطعم ناقص»، يقول، لكنه ضروري حتى لا ننسى كيف نفرح.
كنيسة مجروحة وذاكرة مثقلة
في غزة، لا تُقاس استعدادات عيد الميلاد بعدد الزينات ولا بحجم الاحتفالات، بل بقدرة الناس على الوصول إلى الكنيسة التي سبق أن طالها القصف. كنيسة العائلة المقدسة للاتين، التي تحوّلت خلال الحرب إلى ملجأ للنازحين، تحاول اليوم استعادة دورها الروحي وسط جدران مجروحة وذاكرة مثقلة بالألم.
الاحتفالات هذا العام جاءت مختلفة على نحوٍ صارخ؛ لا مواكب كبيرة، ولا برامج موسيقية موسعة، ولا صخب يليق بعيد عالمي. كل شيء جرى بحذر، وكأن الفرح نفسه يخشى أن يُستفز. التراتيل أُنشِدت بصوت منخفض، والشموع أُشعلت رمزًا للصمود أكثر من كونها طقسًا احتفاليًا.
يقول راعي كنيسة العائلة المقدسة للاتين في غزة، الأب غابريال رومانيلي، إن الاستعدادات اقتصرت على الممكن: تنظيف المكان، إعداد زينة بسيطة، وتنظيم قدّاس يراعي الظروف الأمنية والنفسية للمصلّين. حتى ملابس الأطفال جاءت متواضعة، لكنها حملت معنى خاصًا في مدينة اعتادت الحرمان. «في غزة»، يضيف رومانيلي، "عيد الميلاد ليس احتفالًا مكتملًا، بل فعل مقاومة هادئ"
نزوح يغيّر معنى الأعياد
على مقربة من الكنيسة، يقف فرح خوري، نازح في الخمسين من عمره، متأملًا المكان الذي كان يمر به يوميًا قبل أن يُهدم منزله. يقول إن عيد الميلاد هذا العام «يشبه صلاة طويلة بلا جواب سريع». النزوح، كما يشرح، غيّر كل شيء: البيت، والعمل، والروتين، وحتى معنى الأعياد. لم يعد هناك منزل لتزيينه، ولا مائدة لتجهيزها، ولا ضيوف يمكن استقبالهم. كل ما تبقّى هو الحضور إلى الكنيسة، بوصفه آخر خيط يربط الماضي بالحاضر.
ويضيف أن رؤية الأطفال داخل الكنيسة تمنحه بعض الطمأنينة، «لأنهم، رغم كل شيء، ما زالوا يضحكون». لكنه يعترف بأن الفرح يظل منقوصًا، لأن القلق على الغد لا يغادر الذهن، ولأن الهدنة التي أُعلنت تبدو هشّة وقابلة للانهيار في أي لحظة. بالنسبة له، عيد الميلاد هذا العام ليس مناسبة للاحتفال، بل تذكير بأن البقاء ذاته فعل إيمان.
أقلية صغيرة بجذور عميقة
يُشكّل المسيحيون في غزة أقلية صغيرة، قُدّر عددهم بنحو ألف نسمة قبل بدء الحرب، أي أقل من 0.05 في المئة من إجمالي السكان. ورغم هذا العدد المحدود، ظل حضورهم الاجتماعي والثقافي جزءًا أصيلًا من نسيج المدينة. ينتمي نحو 70 في المئة منهم إلى طائفة الروم الأرثوذكس، فيما يتبع الباقون لطائفة اللاتين الكاثوليك، ويتوزعون في أحياء متفرقة ويعملون في التعليم والطب والوظائف الحكومية والحِرف.
الحرب التي شنّها الكيان الإسرائيلي لم تميّز بين مسيحي ومسلم؛ الجميع فقدوا بيوتًا وأقارب وأمانًا. غير أن خصوصية الأقلية تظهر في خوفها من التلاشي، ومن تحوّل الكنائس إلى مبانٍ بلا جماعة. ورغم ذلك، يصرّ مسيحيو غزة على البقاء وإحياء أعيادهم، ولو بالحد الأدنى، تأكيدًا على جذورهم العميقة في هذه الأرض.
عيد صعب وقصف متواصل
يصف رومانيلي هذا الميلاد بأنه «الأصعب في تاريخ الكنيسة المحلية»، مستحضرًا قصة العائلة المقدسة التي عَبَرت غزة هربًا إلى مصر، ليؤكد أن المعاناة جزء أصيل من رسالة الميلاد. ورغم توقف القصف المكثف، ما زالت أصوات الانفجارات تُسمع أحيانًا، فيما يثقل غياب الكهرباء والاحتياجات الأساسية كاهل الحياة اليومية. تعتمد الرعية على المولدات وألواح الطاقة الشمسية، في وقت يعيش فيه معظم سكان القطاع داخل خيام تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
كنائس تحت الاستهداف
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى عام 2025، استهدفت غارات الكيان الإسرائيلي دور العبادة المسيحية في غزة بشكل متكرر، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من أبناء الطائفة والنازحين الذين لجأوا إليها. من أبرز هذه الهجمات قصف كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس، ثالث أقدم كنيسة في العالم، في تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي أسفر عن استشهاد 18 فلسطينيًا مسيحيًا. كما شهدت كنيسة العائلة المقدسة اعتداءات دامية، بينها مقتل سيدة وابنتها برصاص القناصة، ثم قصف جديد أدى إلى سقوط شهداء آخرين.
ورغم الإدانات الحقوقية والكنسية، بقيت الكنائس شاهدة على الاستهداف، وعلى إصرار جماعاتها على الصلاة وسط الركام. يقول عضو مجلس وكلاء الكنيسة الأرثوذكسية في غزة، إلياس الجلدة، إن عيد الميلاد هذا العام يأتي مثقلًا بالحزن، لكنه لا يخلو من إيمان عميق بمعنى البقاء. «نُشعل الشموع»، يقول، ليس لأن الظلام انتهى، بل لأننا نرفض الاستسلام له.
هكذا، يتحول عيد الميلاد في غزة إلى رسالة صامتة للعالم: حتى تحت القصف، وحتى في مواجهة الكيان الإسرائيلي، ما زال الإيمان قادرًا على أن يولد من تحت الأنقاض، وما زالت الشموع الصغيرة قادرة على تحدي العتمة.
